Thursday, June 15, 2006

هيصة

ـ فعلا يا سيادة اللوا أنا حصل لي خلل في مخي
ـ إنت شارب حاجة يا ولد
ـ شارب من كيعاني يا سيادة اللوا ! و كمان حضرتك بتقول لي يا ولد ! يعني قتلتني
ـإنت باين عليك بلطجي مش لاقي اللي يحكمك
ـ بالعكس يا سيادة اللوا ، دي مصيبتي في الحياة إن اللي بيحكموني مالهمش عدد !! منين ما أمشي ألاقي اللي عاوز يحكمني !! كل خطوة فيها اتنين تلاتة لازم يدوني الأوامر ، لازم آخد توقيعاتهم ! لازم أضرب لهم تعظيم سلام ! لازم أستأذنهم عشان أدخل محل الأدب ، عشان أكل ، عشان أشرب ، عشان أنام !! زهقت يا مسلمين طهقت قلت ما ينفعش الكلام ده لازم أنا اللي أحكم نفسي بنفسي فيها حاجة دي ؟ مش عاوز أبقي خاضع لحد ، حقي و لا مش حقي ؟ وظيفة مش عاوز أتوظف أنا حر ! لعب مش عاوز ألعب حد شريكي ؟
صار اللواء يتلفت حواليه كالموتور :
بقي دي عقلية واحد مرشح لبطولة دولية كبيرة ؟! دي أخلاق واحد معلقين عليه الأمل ؟
**********
كان مبني ماسبيرو يقترب علي اليسار ، و مبني هيلتون النيل علي اليمين فيما نحن مقبلين فوق الكوبري علي ميدان عبد المنعم رياض حينما فوجئت بهيصة كبيرة علي إفريز الكوبري : جمع كبير من الرجال و السيدات و الأطفال ، تمهلنا لنري إن كانت حادثة قد وقعت لإحدي هذه السيارات الراكنة علي اليمين ، فإذا بي أفاجأ بصالح هيصة شخصيا ، واقفا بلحمه و شحمه ، بسحنته الخلاسية و شعره الأبيض كطاقية من الثلج المندوف ،و قامته الفارعة ، تحت كشافات و أضواء مبهرة . نزلت من التاكسي ، جريت إلي صالح هيصة بشوق عارم عرامة القهر و المزلة طوال النسين الفائتة . كنا لانزال مكسورين من تدمير أمريكا لدولة العراق الشقيق بعد إجلائه قسراً عن الكويت حيث اضمحلت آخر شمعة كانت في يد جيلنا : القومية العربية . كنت في متاهة الشعور بالضياع التام في حاجة فعلية إلي صالح هيصة لعله يفلسف لي - بمنطقه البدائي الحكيم - أحزاني الكثيرة التي من فرط تراكمها أصبحت أجهل أسبابها
تدافعت بين الزحام أريد الإرتماء علي صدر صالح هيصة . أوقفتني أيد كثيرة في اللحظة التي داهمتني فيها الأهوال ، حيث تبينت عن قرب أن صالح هيصة الواقف أمامي هو الممثل زكي حامد يصور لقطة في أحد أفلامه حيث يقف مستنداً علي السور الحديدي للكوبري ناظراً بأسف و حسرة في ميدان الشهيد عبد المنعم رياض الذي راح يعج بسيارات لا حصر لها و زئيط جنوني و سحب من الدخان الأسود . و راح صوته ، نفس الصوت الحميم بكل نبراته الحبيبة ، ينساب بلهجة فجائعية تحذيرية كلهجة العراف تيريزياس في المآسي الإغريقية :
ـ ربنا خلق الدنيا هيصة ! كل واحد في هيصة ! بيعمل هيصة ! عشان يلحق الهيصة ! و يا يلحق يا ميلحقش ! و كلهم كحيانين ! كل واحد كحيان بطريقته ! و أنا زعيم الكحيانين ! عشان كحيان بكل الطرق
في الحال انطفأت جميع الأضواء فغرقت المدينة في ظلام دامس . صرنا نتخبط كجثث تتقلب في قبر أضيق من حمام الحاج جمال فرحان
مايو 1999
صالح هيصة ـ خيري شلبي

Wednesday, June 07, 2006

علشان كده اسمه السم

طلب مني أن أوارب باب الزنزانة وأقف خارجه في الممر لأحذره إذا اقترب الحارس أو دخل الضابط العنبر خرجت

وواربت الباب ثم اختلست النظر من فرجته رأيته يفك اللفافة المغسولة ويستخرج منها قطعة قطن ومحقنا

بلاستيكيا وبالونة حمراء معقودة الطرف.
وبسط ورقة جريدة فوق نمرته ووضع فوقها محتويات اللفافة، ثم ملأ كوبًا من مياه الدلو وناوله الحاج "شوقي"

ليمونة من كيسه مزقها بأسنانه.. كنت أعرف أن الليمون يعصر على البودرة الرخيصة المخلوطة بشوائب ولا

تصلح للشم لتطهيرها من التلوث قبل استخدامها في الأنجكة أي الحقن.

رأيت يديه تتحركان بحذق وسرعة، امتص بعض المياه في إبرة الحقن ورفعها في الضوء ليتأكد من صفائها ثم فض

البالونة وسكب ما بها من مسحوق في علبة الصلصة وعصر عليه الليمونة ثم سحب الخليط إلى المحقن من

خلال قطعة القطن.
قال شيئًا للحاج "شوقي" ففك هذا حزام بنطلونه وشمر عن ذراعه، ثم ثناه بعنف عدة مرات كأنما يطريه ولف

الحزام بمهارة حول الجزء العلوي من ذراعه، واحتوى طرفه في يده اليمنى.
تحسس "توكل" ذراعه بأصابعه إلى أن عثر على وريد كبير بارز قرب المرفق، فأمسكه بين الإصبع الوسطى

والإبهام، وجعل يضخ بيده حتى نفرت العروق على ظهرها.
وضع طرف الإبرة وضغطها فاندفعت الدماء إلى القطارة فضغط الحقنة، ودفع المحلول ببطء شديد بعد عشر

ثوان تنهد الحاج "شوقي" في نشوة، واسترخى على جسده ولانت ملامحه وتباطأ تنفسه.
سحب "توكل" الإبرة حتى أوشكت القطارة أن تمتلئ بالدماء ثم جذب السن ومسحه في ورقة "كلينكس" ومسح

أيضاً ذراع الحاج النازف وجمع العدة بسرعة وأعادها إلى كيسها ودسه في صدره فولجت الزنزانة، وفجأة انحنى

الحاج "شوقي" إلى الأمام واضعًا يده على بطنه ثم تقيأ فوق نمرته.
لم يبد "توكل" انزعاجا وقال له:
- ما يهمكش دايمًا كده في الأول علشان كده اسمه السم


من رواية شرف - صنع الله إبراهيم