Sunday, July 24, 2011

كُنْ سَمَكَة

خرجنا لنشرب القهوة في ((فندق الجامعة)) في ساعة متأخرة، ولا أحد في الحانة. وكنت أراقب عبر جدار زجاجي واسع المطر الخفيف الدائم في الشارع. قال بري إنني لا ألتذ بالقهوة بل أعبها عبا. وحدق في لوحة على الحائط المقابل، فوق البار، لوحة رخيصة جدا سبق ورأيتها. قال: ((ما هذه؟)) ((لوحة رخيصة)). ((لم أسأل عن قيمتها بل عما هى)). ((عن رجل عجوز يشرب القهوة)). أجبته بدون أن أكلف نفسي بالمعاناة مرة أخرى من رؤيتها.

((حسين، أنظر إليها)). ونهض نحوها، ووضع اصبعه على بقعة فيها وقال: ((هذه حافة فنجان عليها خط أخضر، وهذا فنجان له شكل قبعة، وهذا حذاء قديم)). كان يضع اصبعه فوق كل شيء وكأنني تلميذ غبي في الصف الأول.

((هل لاحظت لذة العجوز في شرب القهوة؟)). ((لا!)). ((وهل لاحظت أن لون القبعة أسود كالقهوة؟)) ((لا!)). ((لأنك أعمى يا رجل! لا توجد رؤيا بغير معرفة التفاصيل!)). ((لوحة رخيصة ولا أحتاج تفاصيلها!)). رجع تحوي غاضبا، وقال: ((اسمع. عندك الليلة وظيفة مدرسية: أدخل الحمام وافتح ((الدوش)) حتى آخره، وراقب الماء حتى الصباح، أتسمع، حتى يطلع الصبح)).

خرجت غاضبا، ولم أجب. ولكن وجدتني بلا إرادة مني أفعل ما قاله. جلست على حافة البانيو الباردة، وفتحت ((الدوش))، والحنفيات كلها، وحدقت في المياه تسيل حتى الصباح. شعرت بفرق هائل بين عقلي وبين تدفق الماء: عقلي صلب، وواقف، ثابت مثل الجبال التي تربيت فيها، والماء يتدفق ويهدر ويتشكل، وشعرت ببرد في جلدي. كنت أرتجف. تناولت ورقة وكتبت قصيدة تدفقت مني كالماء. طرت فرحا، وخرجت راكضا إلى المخرج الأخير والورقة في يدي. كان المقهى مغلقا فانتظرت حتى فتح، وجاء بري كعادته. طلب مني دولارين لشرب القهوة، وقرأت عليه القصيدة، فتناول الورقة مستفزا، ولم أره غاضبا إلى هذا الحد من قبل ((يا رجل! قلت لك راقب الماء، فكتبت قصيدة عنه! ألا ترى شيئا إلا لكي تكتبه! إلى جهنّم بالشعر، راقب الماء)).

ومزق الورقة ونثرها فوق رأسي. جن جنوني، فقبضت على عنق معطفه، وصرخت لا تتجرأ مرة أخرى على مس قصاصة ورق كتبتها أنا. كدت ألطمه. ((يا رجل الأنا عندك أكبر من مدينة سياتل!)). قال وبدأ بلف لفافتة تبغ جديدة بهدوء ثم أكمل، لما هدأت قليلا، ((راقب الماء كي تفهم شيئا لم يفهمه أحد حتى الآن يدعى ((التغير)). راقب الماء لتفهم الجنون)).

صدمتني الجملة، ولم أجب. جمعت القصاصات معا مرة أخرة وقرأت القصيدة ثانية. راقبني بحب فاجأني وقال: ((حسين، هات الورقة)). تناولها مني وقرأها ثانية، وفي يده قلم رصاص، ثم قال: ((هذه قمامة من الإنطباعات، فيها جملة واحدة فقط مفيدة (رسم تحتها خطا بقلم الرصاص)): ((كن شلالا، وكن سمكة)). لكن هل تفهم معنى ما قلته؟ ما معنى ((كن سمكة؟)).

فكرت لكن لم أجد جوابا. رسم سمكة بفم مفتوح على الورقة، وقال : ((هذه سمكة. كن سمكة. نقطة.)) ولم أفهم لا ما قال ولا ما قلت.

في الليل رجعت لمراقبة الماء، ونسيت الشعر. كم كنت منهكا، ولم أنم لأيام، والله أعلم كم مرت أفكار في ذهني وأنا أحدق في الماء، وأنا أرجف من الرذاذ. غفوت بدون أن أدري على حافة البانيو. وغريب جدا أنني حلمت بأنني سمكة في قعر بحر. فوقي سقف شفاف سائل فيه صبغة خضراء، وفمي ينفتح وينغلق ويلتقط فتات البحر، وفوقي سمك ملون تعبر بالإتجاه المعاكس، وأنا أسبح، أسبح، أسبح، مررت على مدينة نحاس غارقة كنت قرأت عنها في ((ألف ليلة وليلة))، وعن أخطبوط واقف يحدق فيّ في باب كهف، وبيت من حجر بدا شبه بيتنا في الطفولة، وأنا أسبح، أسبح، أسبح، من عالم إلى آخر. جادلت بري في اليوم التالي عن معنى الحلم. قال:

- ((هل تسمى السمكة سمكة إن كانت تسبح في البحر فقط، ولا تسبح في كأس أو بانيو؟)).

- ((لا)).

- ((وإن كانت تسبح في بركة فقط ولا تسبح في البحر، أتسمى سمكة؟)).

- ((لا)).

- ((لماذا؟)).

- ((لأن من طبيعة السمكة أن تسبح في كل ماء)).

- ((هذا هو الفهم: سمكتك الذهبية، من طبيعتها أن تسبح في كل نظرية، كل تجربة، كل رأي، كل نوع من المعرفة، كل ماء، وتبقى هى هى: سمكة ذهبية. إن من طبيعة الذهن أن يفهم نفسه، كما أن من طبيعة السمكة أن تسبح)).

- ((وأين يسبح العقل؟)).

- ((في نفسه: إنه الشلال والسمكة التي تسبح في الشلال. هل فهمت معنى قولك: ((كن شلالا وكن سمكة))؟

- ((فهمت)).

- ((ولم لم تفهم هذا سابقا؟)).

- ((لا أدري)).

- ((لأنك لا تتأمل الكون)).

- ((وماهو التأمل؟)).

- ((أن تتأمل نفسك يعني أن تفهم ما كنت تعرفه دائما من غير أن تفهمه. دائما كان قلبك يعرف معنى كن سمكة وكن شلالا، حتى قبل أن تكتب الجملة كنت تعرفها، ولكن بدون أن تفهم ما تعرفه)).

- ((بري، دعني أسأل عن شيء حاسم بالنسبة لي: تدري، أنا مرتعب من الجنون، من فقدان عقلي. ما المخرج؟)).

- ((لا تتعجل)).

- تناول قلم الرصاص وكتب على ظهر القصيدة:

- ((الحياة لعبة شطرنج

- ذهنك فيها الرقعة، والحجارة، واللاعبون، واللعبة، والقاعدة

فافهم،

وإلا فإنك أبله في تمام الساعة الواحدة.)).

................................

حسين البرغوثي- الضوء الأزرق

صمت الله

((لكن رأسي وحده لا يهدأ، وأفكر أفكر أفكر)).

((ذهنك يشبه سعداناً ينطنط فوق أصابع بيانو))، قال الصوفي. فقط الإنهاك من المشي المستمر يقود إلى صمت ذهني، نعم، الإنهاك المستمر الذي يقعدني على هذا الدرج. ((ما أتعس ذهنا لا يصغي لما هو خارجه، ولا يهدأ، ويشتبك مع نفسه)).

((الذهن عقرب قادرة على لدغ نفسها))، قال الصوفي: ((لقد نهشوا عقلك يا رجل، نهشوه، مثل شاة معلقة على فرع شجرة كي تشبع قطيع ذئاب... صار كالكرة التي يتدربون عليها في الملاكمة!)). سألته: ((من هم؟))، قال: ((هم، من يسكنون في ذهنك، خبراء النهش)).

لو يصمت البحر الذهني ويتعلم من صمت الله.

الضوء الأزرق – حسين البرغوثي